الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
الثالث: أن يكون خبر مبتدأ محذوف، و{يُحَرّفُونَ} صفته.تقديره: من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم، فحذف الموصوف وأقيم الوصف مكانه.الرابع: أنه تعالى لما قال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب يَشْتَرُونَ الضلالة} [النساء: 44] بقي ذلك مجملا من وجهين، فكأنه قيل: ومن ذلك الذين أوتوا نصيبا من الكتاب؟ فأجيب وقيل: من الذين هادوا، ثم قيل: وكيف يشترون الضلالة؟ فأجيب وقيل: يحرفون الكلم. اهـ.قال الفخر:في كيفية التحريف وجوه:أحدها: أنهم كانوا يبدلون اللفظ بلفظ آخر مثل تحريفهم اسم ربعة عن موضعه في التوراة بوضعهم آدم طويل مكانه، ونحو تحريفهم الرجم بوضعهم الحد بدله ونظيره قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِندِ الله} [البقرة: 79].فإن قيل: كيف يمكن هذا في الكتاب الذي بلغت آحاد حروفه وكلماته مبلغ التواتر المشهور في الشرق والغرب؟قلنا لعله يقال: القوم كانوا قليلين، والعلماء بالكتاب كانوا في غاية القلة فقدروا على هذا التحريف، والثاني: أن المراد بالتحريف: إلقاء الشبه الباطلة، والتأويلات الفاسدة، وصرف اللفظ عن معناه الحق إلى معنى باطل بوجوه الحيل اللفظية، كما يفعله أهل البدعة في زماننا هذا بالآيات المخالفة لمذاهبهم، وهذا هو الأصح.الثالث: أنهم كانوا يدخلون على النبي صلى الله عليه وسلم ويسألونه عن أمر فيخبرهم ليأخذوا به، فإذا خرجوا من عنده حرفوا كلامه. اهـ.قال الفخر:ذكر الله تعالى ههنا: {عَن مواضعه} وفي المائدة {مِن بَعْدِ مواضعه} [المائدة: 41] والفرق أنا إذا فسرنا التحريف بالتأويلات الباطلة، فههنا قوله: {يُحَرّفُونَ الكلم عَن مواضعه} معناه: أنهم يذكرون التأويلات الفاسدة لتلك النصوص، فههنا قوله: {يُحَرّفُونَ الكلم عَن مواضعه} معناه: أنهم يذكرون التأويلات الفاسدة لتلك النصوص، وليس فيه بيان أنهم يخرجون تلك اللفظة من الكتاب.وأما الآية المذكورة في سورة المائدة، فهي دالة على أنهم جمعوا بين الأمرين، فكانوا يذكرون التأويلات الفاسدة، وكانوا يخرجون اللفظ أيضا من الكتاب، فقوله: {يُحَرّفُونَ الكلم} إشارة إلى التأويل الباطل وقوله: {مِن بَعْدِ مواضعه} إشارة إلى إخراجه عن الكتاب. اهـ.قال الفخر:النوع الثاني: من ضلالاتهم: ما ذكره الله تعالى بقوله: {وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} وفيه وجهان:الأول: أن النبي عليه السلام كان إذا أمرهم بشيء قالوا في الظاهر: سمعنا، وقالوا في أنفسهم: وعصينا.والثاني: أنهم كانوا يظهرون قولهم: سمعنا وعصينا، إظهارًا للمخالفة، واستحقارًا للأمر. اهـ.قال الفخر:النوع الثالث: من ضلالتهم قوله: {واسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ}.واعلم أن هذه الكلمة ذو وجهين يحتمل المدح والتعظيم، ويحتمل الإهانة والشتم.أما أنه يحتمل المدح فهو أن يكون المراد اسمع غير مسمع مكروها، وأما أنه محتمل للشتم والذم فذاك من وجوه:الأول: أنهم كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: اسمع، ويقولون في أنفسهم: لا سمعت، فقوله: {غَيْرَ مُسْمَعٍ} معناه: غير سامع، فإن السامع مسمع، والمسمع سامع.الثاني: غير مسمع، أي غير مقبول منك، ولا تجاب إلى ما تدعو إليه، ومعناه غير مسمع جوابا يوافقك، فكأنك ما أسمعت شيئا.الثالث: اسمع غير مسمع كلاما ترضاه، ومتى كان كذلك فإن الإنسان لا يسمعه لنبو سمعه عنه، فثبت بما ذكرنا أن هذه الكلمة محتملة للذم والمدح، فكانوا يذكرونها لغرض الشتم. اهـ.قال الفخر:النوع الرابع: من ضلالاتهم قولهم: {وراعنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا في الدين} أما تفسير {راعنا} فقد ذكرناه في سورة البقرة وفيه وجوه:الأول: أن هذه كلمة كانت تجري بينهم على جهة الهزء والسخرية، فلذلك نهى المسلمون أن يتلفظوا بها في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم.الثاني: قوله: {راعنا} معناه ارعنا سمعك، أي اصرف سمعك إلى كلامنا وأنصت لحديثنا وتفهم، وهذا مما لا يخاطب به الأنبياء عليهم السلام، بل إنما يخاطبون بالإجلال والتعظيم.الثالث: كانوا يقولون راعنا ويوهمونه في ظاهر الأمر أنهم يريدون أرعنا سمعك، وكانوا يريدون سبه بالرعونة في لغتهم.الرابع: أنهم كانوا يلوون ألسنتهم حتى يصير قولهم: {راعنا} راعينا، وكانوا يريدون أنك كنت ترعى أغناما لنا، وقوله: {لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ} قال الواحدي: أصل {ليًا} لويا، لأنه من لويت، ولكن الواو أدغمت في الياء لسبقها بالسكون، ومثله الطي وفي تفسيره وجوه:الأول: قال الفراء كانوا يقولون: راعنا ويريدون به الشتم، فذاك هو اللي، وكذلك قولهم: {غير مسمع} وأرادوا به لا سمعت، فهذا هو اللي.الثاني: أنهم كانوا يصلون بألسنتهم ما يضمرونه من الشتم إلى ما يظهرونه من التوقير على سبيل النفاق.الثالث: لعلهم كانوا يفتلون أشداقهم وألسنتهم عند ذكر هذا الكلام على سبيل السخرية، كما جرت عادة من يهزأ بإنسان بمثل هذا الأفعال، ثم بين تعالى أنهم إنما يقدمون على هذه الأشياء لطعنهم في الدين، لأنهم كانوا يقولون لأصحابهم: إنما نشتمه ولا يعرف، ولو كان نبيا لعرف ذلك، فأظهر الله تعالى ذلك فعرفه خبث ضمائرهم، فانقلب ما فعلوه طعنا في نبوته دلالة قاطعة على نبوته، لأن الإخبار عن الغيب معجز. اهـ.
.قال ابن عطية: وهذا الليّ باللسان إلى خلاف ما في القلب موجود حتى الآن في بني إسرائيل، ويحفظ منه في عصرنا أمثلة، إلا أنه لا يليق ذكرها بهذا الكتاب. اهـ..وقال أبو حيان: وهو يحكي عن يهود الأندلس، وقد شاهدناهم وشاهدنا يهود ديار مصر على هذه الطريقة، وكأنهم يربون أولادهم الصغار على ذلك، ويحفظونهم ما يخاطبون به المسلمين مما ظاهره التوقير ويريدون به التحقير. اهـ..قال الفخر: والمعنى أنهم لو قالوا بدل قولهم: سمعنا وعصينا، سمعنا وأطعنا لعلمهم بصدقك ولإظهارك الدلائل والبينات مرات بعد مرات، وبدل قولهم: {واسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ} قولهم واسمع، وبدل قولهم: {راعنا} قولهم: {انظرنا} أي اسمع منا ما نقول، وانظرنا حتى نتفهم عنك لكان خيرا لهم عند الله وأقوم، أي أعدل وأصوب، ومنه يقال: رمح قويم أي مستقيم؛ وقومت الشيء من عوج فتقوم. اهـ.سؤال: فإن قيل: قولنا هذا خير من ذلك يقتضى أن يكون في كل واحد منهما خير حتى يصح تفضيل أحدهما على الآخر لأن خيرا في الأصل: أفعل تفضيل فكيف قال: {لكان خيرا لهم وأقوم} بعد ما سبق من قولهم في أول الآية؟قلنا: المراد بالخير هنا هو الخير الذي هو ضد الشر لا الذي هو أفعل التفضيل كما تقول: في فلان خير. اهـ.قال الفخر:{وَلَكِن لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ} والمراد أنه تعالى إنما لعنهم بسبب كفرهم.ثم قال: {فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلًا} وفيه قولان:أحدهما: أن القليل صفة للقوم، والمعنى فلا يؤمن منهم إلا أقوام قليلون.ثم منهم من قال: كان ذلك القليل عبد الله بن سلام وأصحابه، وقيل: هم الذين علم الله منهم أنهم يؤمنون بعد ذلك.والقول الثاني: أن القليل صفة للإيمان، والتقدير فلا يؤمنون إلا إيمانا قليلا، فإنهم كانوا يؤمنون بالله والتوراة وموسى ولكنهم كانوا يكفرون بسائر الأنبياء، ورجح أبو علي الفارسي هذا القول على الأول، قال: لأن قليلا لفظ مفرد، ولو أريد به ناس لجمع نحو قوله: {إِنَّ هؤلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} [الشعراء: 54] ويمكن أن يجاب عنه بأنه قد جاء فعيل مفردا، والمراد به الجمع قال تعالى: {وَحَسُنَ أولئك رَفِيقًا} [النساء: 69] وقال: {وَلاَ يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا يُبَصَّرُونَهُمْ} [المعارج: 10، 11] فدل عود الذكر مجموعا إلى القبيلين على أنه أريد بهما الكثرة. اهـ..قال أبو حيان: {فلا يؤمنون إلا قليلًا} استثناء من ضمير المفعول في لعنهم أي: إلا قليلًا لم يلعنهم فآمنوا، أو استثناء من الفاعل في: فلا يؤمنون، أي: إلا قليلًا فآمنوا كعبد الله بن سلام، وكعب الأحبار، وغيرهما.أو هو راجع إلى المصدر المفهوم من قوله: {فلا يؤمنون} أي: إلا إيمانًا قليلًا قلله إذ آمنوا بالتوحيد، وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبشرائعه.وقال الزمخشري: إلا إيمانًا قليلًا أي: ضعيفًا ركيكًا لا يعبأ به، وهو إيمانهم بمن خلقهم مع كفرهم بغيره.وأراد بالقلة العدم كقوله: قليل التشكي للهموم تصيبه.أي عديم التشكي.وقال ابن عطية: من عبر بالقلة عن الإيمان قال: هي عبارة عن عدمه ما حكى سيبويه من قولهم: أرض قلما تنبت كذا، وهي لا تنبته جملة.وهذا الذي ذكره الزمخشري وابن عطية من أن التقليل يراد به العدم هو صحيح في نفسه، لكن ليس هذا التركيب الاستثنائي من تراكيبه.فإذا قلت: لا أقوم إلا قليلًا، لم يوضع هذا لانتقاء القيام ألبتة، بل هذا يدل على انتفاء القيام منك إلا قليلًا فيوجد منك.وإذا قلت: قلما يقوم أحد إلا زيد، وأقل رجل يقول ذلك احتمل هذا، أن يراد به التقليل المقابل للتكثير، واحتمل أن يراد به النفي المحض.وكأنك قلت: ما يقوم أحد إلا زيد، وما رجل يقول ذلك.إمّا أن تنفي ثم توجب ويصير الإيجاب بعد النفي يدل على النفي، فلا إذ تكون إلا وما بعدها على هذا التقدير، جيء بها لغوًا لا فائدة فيه، إذ الانتفاء قد فهم من قولك: لا أقوم.فأيُّ فائدة في استثناء مثبت يراد به الانتفاء المفهوم من الجملة السابقة، وأيضًا، فإنه يؤدي إلى أن يكون ما بعد إلا موافقًا لما قبلها في المعنى.وباب الاستثناء لا يكون فيه ما بعد إلا موافقًا لما قبلها، وظاهر قوله: {فلا يؤمنون إلا قليلًا}، إذا جعلناه عائدًا إلى الإيمان، إنّ الإيمان يتجزأ بالقلة والكثرة، فيزيد وينقص، والجواب: إن زيادته ونقصه هو بحسب قلة المتعلقات وكثرتها. اهـ..سؤال وجوابه: فإن قيل: كيف جاؤا بالقول المحتمل للوجهين بعد ما حرفوا، وقالوا سمعنا وعصينا؟والجواب من وجهين:الأول: أنا حكينا عن بعض المفسرين أنه قال: إنهم ما كانوا يظهرون قولهم: {وَعَصَيْنَا} بل كانوا يقولونه في أنفسهم.والثاني: هب أنهم أظهروا ذلك إلا أن جميع الكفرة كانوا يواجهونه بالكفر والعصيان، ولا يواجهونه بالسب والشتم. اهـ.
|